جلس بهدوء في ركن من أركان غرفته يسترجع شريط ذكرياته أربعة و عشرين عاما مضت من عمره قضاها مع محبوبته متقاسمين الأيام بحلوها و مرها . لم يتذمر يوما من طلباتها و لم تتذمر يوما من غيرته و خوفه اللا محدود عليها لكنه خوف مبرر لأنه الأب على أبنته التي قضى شبابه في تربيتها بعد وفاة والدتها وقت ولادتها .
كرس حياته لتربيتها و لم يفكر في الزواج يوما فكان لها الأب و الأم و الأخت و الأخ و كل شي جميل درت في الروضة ثم المدارس بمراحلها و أنهت الدراسة الجامعية بجد و تميز فقد سعى لتعليمها أفضل العلوم و في أرقى المدارس و الجامعات و سهر ليالي كثيرة معها أثناء مرضها لتنام مطمئنة و أثناء احتفالها بتخرجها ليشاركها سعادتها بالتخرج و سافر معها في كل إجازة صيفية و لم يشعرها يوما بأنه ينقصها شي . إلى أن أفاق يوما من صراخها ألم شديد في المعدة فأنتقل بها على الفور أقرب عيادة صحية فطلب منه نقلها فورا إلى أكبر المستشفيات في الدولة لعمل التحاليل اللازمة و بعد عشرات التحاليل و المسكنات جاء الطبيب و خطواته مثقلة و هو يقول ( يؤسفني أن أخبرك بأن أبنتك مصابة بسرطان في المعدة و المرض في مرحلة متقدمة نعجز و يعجز الطب حاليا عن علاجه لأن الخلايا السرطانية انتقلت إلى كثير من الأعضاء و ما عادت السيطرة عليها بأيدينا فأسأل الله لها حسن الخاتمة ) .
تمنى الأب في تلك اللحظة لو أن الأرض انشقت و بلعته قبل سماعه خبرا كهذا .. فكيف يتحمل فراقها ؟! و كيف له أن يتخيل حياته بدونها ؟! لكنها مشيئة الله يصرف الأمور كيف يشاء .. وبات مراقبا لهمسات ابنته و تحركاتها حتى و هي تحت تلك الأجهزة و الأسلاك ..
إلى أن همسة له و بكلمات متقطعة : توقف يا أبي عن البكاء فقال : لا تقلقي يا ابنتي ستكونين بخير إن شاء الله . فردت بابتسامة ممزوجة بألم : سامحني يا أبي فقد عذبتك في حياتي و ستتعذب بعد مماتي فلا تنسني من دعائك و آخر ما أتمنى أن يجمعني بك و بأمي في جنات الخلد . فأنطقها الشهادتين و فاضت روحها بعد ذلك إلى بارئها . فبقي الأب وحيدا بلا سند ولا ولد و في كل يوم يسترجع شريط الذكريات التي غاب عن باله لحظة و هو يسأل الله أن يرزقه حسن الخاتمة